كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أَبُو بَكْرٍ نَصَّ اللَّهُ تعالى عَلَى حُكْمِ الظِّهَارِ، وَهُوَ أَنْ يَقول: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَالظَّهْرُ مِمَّا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ مَا لَا يَسْتَبِيحُ النَّظَرَ إلَيْهِ فِي حُكْمِهِ، وَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِهِ؛ إذْ لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مِنْ الْأُمِّ مُطْلَقًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الظِّهَارُ بِهِ؛ إذْ كَانَ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا، وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ لَهُ اسْتِبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَشْبَهَ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَيْهَا مِثْلَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْلَاكِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ، فَقال الْحَسَنُ: لِلْمُظَاهِرِ أَنْ يُجَامِعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَقال عَطَاءٌ: يَجُوزُ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ يُبَاشِرَ؛ لِأَنَّهُ قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وَقال الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الْوُقُوعُ نَفْسُهُ. وَقال أَصْحَابُنَا: لَا يَقْرَبُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يَلْمِسُ وَلَا يُقَبِّلُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَقال مَالِكٌ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقال: لَا يَنْظُرُ إلَى شَعْرِهَا وَلَا صَدْرِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْعُوهُ إلَى خَيْرٍ.
وَقال الثَّوْرِيُّ: يَأْتِيهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْجِمَاعِ.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: يَحِلُّ لَهُ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالْحَائِضِ. وَقال الشَّافِعِيُّ: يُمْنَعُ الْقُبْلَةَ وَالتَّلَذُّذَ احْتِيَاطًا.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي حَظْرِ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا لَمَّا قال: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَأَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَتَشْبِيهِهِ بِظَهْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ عَامًّا فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالْجِمَاعِ كَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قال: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قال: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، قال: «فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَقال: «لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ»، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمَسِيسَ وَالْقُبْلَةَ.
فِي ظِهَارِ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا قال أَصْحَابُنَا: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهَا إذَا قالتْ لِزَوْجِهَا أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَظَهْرِ أَخِي كَانَتْ مُظَاهِرَةً مِنْ زَوْجِهَا، قال عَلِيٌّ: فَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقال: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، فَأَتَيْتُ أَبَا يُوسُفَ فَذَكَرْتُ لَهُ قوليْهِمَا فَقال: هَذَانِ شَيْخَا الْفِقْهِ أَخْطَئَا، هُوَ تَحْرِيمٌ، عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَقولهَا أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ هِيَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا. وَقال الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تُعْتِقُ رَقَبَةً وَتُكَفِّرُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَكَفَّرَتْ يَمِينًا رَجَوْنَا أَنْ يُجْزِيَهَا.
وَرَوَى مُغِيرَةٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ قال: خَطَبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ فَقالتْ: هُوَ عَلَيْهَا كَظَهْرِ أَبِيهَا إنْ تَزَوَّجْته، فَلَمَّا وَلِيَ الْإِمَارَةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا، فَأَرْسَلَتْ تَسْأَلُ وَالْفُقَهَاءُ يَوْمِئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرٌ، فَأَفْتُوهَا أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً وَتَزَوَّجَهَا؛ وَقال إبْرَاهِيمُ: لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ زَوْجِهَا يَوْمَ قالتْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَمْلِكُ نَفْسَهَا حِينَ قالتْ مَا قالتْ وَرُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهَا إذَا قالتْ: إنْ تَزَوَّجْته فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. كَانَتْ مُظَاهِرَةً، وَلَوْ قالتْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ كَانَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قال أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا تَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ كَمَا أَنَّ قول الرَّجُلِ: (أَنْتِ طَالِقٌ) لَا يَكُونُ غَيْرَ طَالِقٍ، كَذَلِكَ ظِهَارُهَا لَا يَلْزَمُهَا بِهِ شَيْءٌ.
وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا ظِهَارٌ بِهَذَا الْقول؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقول وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ؛ إذْ كَانَ مَوْضُوعًا لِتَحْرِيمٍ يَقَعُ بِالْقول.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قال أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي، فَقال أَصْحَابُنَا وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقال مَالِكٌ: هُوَ مُظَاهِرٌ. قال أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ تعالى بِالظِّهَارِ فِيمَنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَى ظَهْرِهَا بِحَالٍ، وَهُوَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِ أَبِيهِ وَالْأَبُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَوْ قال: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ) لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ ظَهْرُ الْأَبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا، فَقال أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّكْرَارَ فَتَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقال مَالِكٌ: مَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ظَاهَرَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ ظَاهَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَقَاعِدَ شَتَّى. قال أَبُو بَكْرٍ: الْأَصْلُ أَنَّ الظِّهَارَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمٍ تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ أَنْ تَجِبَ بِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ، إلَّا أَنَّهُمْ قالوا إذَا أَرَادَ التَّكْرَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِمَا أَرَادَ مِنْ التَّكْرَارِ فَإِنْ قِيلَ: قولهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يَقْتَضِي إيجَابَ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ ظَاهَرَ مِرَارًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ الْمِرَارِ الْكَثِيرَةِ قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي رَفْعِ التَّحْرِيمِ مُتَعَلِّقَةً بِحُرْمَةِ اللَّفْظِ أَشْبَهَ الْيَمِينَ، فَمَتَى حَلَفَ مِرَارًا لَزِمَتْهُ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ إذَا حَنِثَ، وَلَمْ يَكُنْ قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} مُوجِبًا لِلِاقْتِصَارِ بِالْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُظَاهِرِ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ؟ فَقال أَصْحَابُنَا: لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَذَكَرَ الطحاوي عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قال: سَأَلْت الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ عَنْ رِجْلٍ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَلَمْ يُكَفِّرْ تَهَاوُنًا، قال: تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ؛ قال: وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ، فَقال: تَسْتَعِدِّي عَلَيْهِ وَقال مَالِكٌ: عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا وَيَحُولُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. وَقول الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالتَّكْفِيرِ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قال أَصْحَابُنَا: يُجْبَرُ عَلَى جِمَاعِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ أَبَى ضَرَبَتْهُ رَوَاهُ هِشَامٌ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْجِمَاعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ عَنْ الظِّهَارِ، فَقال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْحَسَنِ: يُجْزِي الْكَافِرَ. وَهُوَ قول أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّهُ لَا يُجْزِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا الرَّقَبَةَ الْمُؤْمِنَةَ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ قال أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قولهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي جَوَازَ الْكَافِرَةِ، وَكَذَلِكَ قولهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُظَاهِرِ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْإِيمَانَ، وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهَا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ قِيَاسِ الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إيجَابَ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ النَّسْخَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ رَقَبَةٍ لِلْخِدْمَةِ، فَقال أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا أَوْ كَانَ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقال اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ لَهُ خَادِمٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ، قال اللَّهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}.
فَأَوْجَبَ الرَّقَبَةَ بَدِيًّا عَلَى وَاجِدِهَا وَنَقَلَهُ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا وَاجِدًا لَهَا لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِاسْتِبْقَاءِ الْمَاءِ وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ عِتْقُ هَذِهِ الرَّقَبَةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ، فَقال أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا عَنْ الْكِتَابَةِ، وَلَا الْمُدَبَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلَوْ قال: كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا يَنْوِيهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ. وَقال زُفَرُ: لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا.
وَقال مَالِكٌ: لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا مُعْتَقٌ إلَى سِنِينَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ.
وَقال الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ وَلَا الْمُدَبَّرُ وَلَا أُمُّ الْوَلَدِ. وَقال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يُجْزِي الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ.
وَقال اللَّيْثُ: يُجْزِي أَنْ يَشْتَرِيَ أَبَاهُ فَيُعْتِقَهُ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ. وَقال الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي مَنْ إذَا اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، يُجْزِي الْمُدَبَّرُ وَلَا يُجْزِي الْمُكَاتَبُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، وَيُجْزِي الْمُعْتَقُ إلَى سِنِينَ وَلَا تُجْزِي أُمُّ الْوَلَدِ. قال أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْزِيَانِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا الْعِتْقَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُمَا مِنْ حَقِّ الْعَتَاقِ يَمْنَعُ بَيْعَهُمَا وَلَا يَصِحُّ فَسْخُ ذَلِكَ عَنْهُمَا؟ فَمَتَى أَعْتَقَهُمَا فَإِنَّمَا عَجَّلَ عِتْقًا مُسْتَحَقًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ قال لَهُ الْمَوْلَى: (أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ بِهَذَا الْقول يَمْنَعُ بَيْعَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؟ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَإِنَّ الْكِتَابَةَ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ وَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ عِتْقِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا فَقَدْ أَسْقَطَ الْمَالَ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا غَيْرَ مُكَاتَبٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى شَيْئًا لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَنْفَسِخُ بِعِتْقِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَنْ عِتْقِهِ بَدَلَ فَلَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ فَإِنَّهُ يُجْزِي إذَا نَوَى؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ لِلشِّرَى بِمَنْزِلَةِ قولهِ أَنْتَ حُرٌّ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَاهُ: يُعْتِقُهُ بِشِرَائِهِ إيَّاهُ، فَجَعَلَ شِرَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ قولهِ: (أَنْتَ حُرٌّ) فَأَجْزَأَ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قال لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ، فَقال أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعُ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَقال مَالِكٌ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ، وَهُوَ مُدَّانِ إلَّا ثُلُثًا بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَأَمَّا الشَّعِيرُ فَإِنْ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ بَلَدِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا طَعَامَ أَهْلِ الْبَلَدِ أَطْعَمَهُمْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَسَطًا مِنْ شِبَعِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ.
وَقال الشَّافِعِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ حِنْطَةٌ أَوَشَعِيرٌ أَوْ أُرْزٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ أَقِطٌ، وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ أُحْدِثَ بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيُّ قالا: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قال: كُنْت امْرًأ أُصِيبُ مِنْ النِّسَاءِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ظِهَارِهِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَنَّهُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقال: «حَرِّرْ رَقَبَةً»، فَقُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي، قال: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قال: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ قال: «فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»، قُلْت: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ وَمَا لَنَا طَعَامٌ قال: «فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْك فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُك بَقِيَّتَهَا».
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ مَالِك بْنِ ثَعْلَبَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا».
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ خَوْلَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا ظَاهَرَ مِنْهَا فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَيْنَا حديث مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ وَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى خَبَرِك وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حديث إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زَيْدَانَ زَوْجُ خَوْلَةَ ظَاهَرَ مِنْهَا وَذَكَرَ الْحديث، فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَانَهُ بِبَعْضِ الْكَفَّارَةِ.